العالم يتجاهل قنبلة موقوتة.. والحركة العالمية ضد الديون تكتسب الزخم

تاريخ النشر: 
الاثنين, 8 أبريل, 2024

المؤلفون: كارولينا تاماغنيني من Fundeps؛ سلمى حسين، عضوة فرد؛ جون مويبي من مشروع المحاسبة الدولي؛ كولينز ليكو من الشبكة العالمية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية

كيف ستُشكّل قيود الديون الخانقة الحوار والمحادثات أثناء اجتماعات الربيع المقبلة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي؟ هذه الاجتماعات المقررة في الفترة من 15 إلى 21 أبريل/نيسان 2024 في واشنطن العاصمة، سوف تجمع – كالعادة – قادة حكومات وشركات متعددة الجنسية ومُقرضين من مؤسسات وأفراد، ومؤسسات أخرى، للتشاور حول التحديات التي تواجه الوضع المالي العالمي ولمحاولة الوصول لحلول محتملة. يمثل هذا التجمّع أيضاً فرصة ومنصة للحركة العالمية لإلغاء الديون، من أجل التوعية بمطالبنا حول عدالة الديون، لا سيما لدول الجنوب العالمي.


 

الآثار العالمية للديون 

طبقاً لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، فإن نحو 3.3 مليار نسمة – نصف البشرية تقريباً – يعيشون حالياً في دول يفوق فيها الإنفاق على الديون المخصصات التي تذهب للتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية. إضافة إلى اضطرار تلك الدول إلى استنزاف أموالها اللازمة للخدمات العامة الأساسية، فإن المؤسسات المالية الدولية قد فرضت إصلاحات في السياسات على نفس الدول، تزيد من الاقتطاعات المأخوذة من الإنفاق الحكومي، وتجرّد الناس من تدابير الحماية العمالية ومن حقوق العمال، وترفع الضرائب وتخصخص الخدمات والسلع الأساسية، من بين جملة إجراءات تقشف أخرى تضر المجتمعات المهمّشة بصورة غير متناسبة. إن التقشف والخصخصة تضر النساء بصورة خاصة،  وتقلّص من توفر الخدمات الأساسية وتزيد من أعباء الرعاية غير مدفوعة الأجر، وتدفع بالمزيد من الناس نحو الاستدانة. كما أن الديون السيادية قد حرمت الجنوب العالمي من الموارد التي يحتاجها بشدّة للتصدي لإعمال حقوق الإنسان ومواجهة الآثار الضارة لتغير المناخ والأزمات الاقتصادية، إذ تُعلى أولوية إنفاق الموارد القليلة المتوفرة على خدمة الديون وسدادها.

من يقفون وراء أعباء الديون الواقعة على الجنوب العالمي 

هنا تكمن المفارقة! أزمة الديون السيادية الحالية هي من صنع دول الشمال العالمي. مع تراجع نسب الفائدة على مدار العقد الماضي، شجّعت المؤسسات المالية الدول على الاقتراض. أدّى هذا إلى سيناريو فيه يستفيد المستثمرون من الفوائد الأعلى المقدمة للدول الأكثر معاناة من الفقر. لكن عندما يضرب الكساد الدول الثرية، ترتفع نسب الفائدة، ما يؤدي إلى زيادة أعباء الاستدانة على الدول المدينة بمزيد من التزامات الديون. هذه الدول المحملة بأعباء الديون تكافح بالفعل في أعقاب أزمة كوفيد، وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، والتباطؤ الاقتصادي، وها هي تجد نفسها مضطرة لتخصيص الكثير من الإنفاق العام وتقلل الأجور والإنفاق الاجتماعي، لإعلاء أولوية سداد الديون.

آثار هذه الأزمة ظاهرة للعيان، إذ أن أغلب السكان يعانون من تراجع معدلات الإنفاق الاجتماعي. الأقل وضوحاً هو من المستفيدون من هذه الظروف: بنوك الاستثمار والمؤسسات المالية والأفراد الأثرياء الذين يخدمون بالأساس كمقرضين أساسيين للحكومات. على طول الخط، راح صندوق النقد الدولي الذي يُنظر إليه عادة بصفته ممثل هذه المنظومة المالية، يجمع الفوائد لصالح هؤلاء المستفيدين، على حساب مئات الملايين من الناس عبر العالم. هذا هو بالضبط ما نصفه بمصطلح "عدم عدالة الديون".

ترسّخ أزمة الديون العالمية: دعوات للإصلاح العاجل

على مدار عاميّ 2023 و2024، راحت دول كثيرة تواجه أعباء الديون الشديدة. تبلغ معدلات الديون مستويات عالية بصورة خاصة في الاقتصادات في الشريحة الدنيا من الدول متوسطة الدخل، بما يشمل مصر، بواقع 92 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي، وتبلغ النسبة في أنجولا 84.9 بالمئة، و70.2 بالمئة في كينيا. لقد نبّهت الأونكتاد إلى أزمة الديون العالمية التي تلوح في الأفق، ودعت إلى إصلاحات عاجلة على مستوى منظومة الدين العالمي. شددت الحركات الاجتماعية والمجموعات النسوية والمجتمع المدني وحركات الشعوب الأصلية والمجتمعات المقاومة، على هذه النقطة، في سياق "القمة المضادة" التي أتاحت مساحة بديلة للنقاش حول إعادة التنظيم الملحّة للمنظومة المالية العالمية. وكانت كل من الشبكة العالمية و"يوروداد" و"عدالة الديون" من بين الشبكات العالمية المشاركة في القمة المضادة، لتعظيم أصوات الدعوات المطالبة بوضع حقوق الإنسان في القلب من البدائل وإنهاء الاشتراطات المجحفة المفروضة من قبل صندوق النقد والبنك الدولي.

صوغ الحلول لعدالة الديون في اجتماعات الربيع 

يجب أن تصبح اجتماعات الربيع المقبلة في أبريل/نيسان 2024 بمثابة العامل المحفز والفرصة الاستراتيجية ليس فقط لتشريح وتحليل مختلف عناصر المنظومة المالية العالمية في خضم الأزمات المتعددة من ديون ومناخ واقتصاد، إنما أيضاً أن تصبح فرصة لسنّ آليات للتوصل إلى حلول. سوف تلعب منظمات المجتمع المدني دوراً محورياً عن طريق تقديم الأصوات البديلة وشواغل المجتمعات والناس المتضررين من الديون المجحفة غير القانونية.

بشكل عام، تصرّ المؤسسات المالية العالمية على فعالية واعتمادية السياسات الحالية، مدعومة في قولها هذا ببياناتها، مع تجاهلها لمقترحات خارجية تسعى لمواجهة آثار الرأسمالية النيوليبرالية والأمولة وسياسات الإفقار الاقتصادية والبنى الاقتصادية المؤدية إلى الفقر. وهناك ما يبدو أنه ما يشبه الاتفاق على دعم حقوق الإنسان، لكن هذه النقطة كثيراً ما لا تتحقق من حيث الممارسة، بسبب عدم تقبل المؤسسات المالية العالمية لأي نقد. هناك تصور راسخ بأن حقوق الإنسان مُثل عليا يصعب تحقيقها، لا كونها التزام قانوني واجب النفاذ. لكن أدت أزمة الديون إلى وضع حائر ومضطرب، وهو سياق يحتاج منّا إلى بناء حركة سياسية ضد الديون غير المستدامة أو المشروعة، والاشتراطات المؤذية المستمرة في ضرب الحقوق الأساسية للناس والإضرار بحياتهم. كما تضطرنا الأزمة إلى التفكير في كيف يؤدي السياق القائم إلى دعم السرديات والممارسات المضادة للديمقراطية.

إننا نشهد اليوم جهوداً لدعم والحفاظ على إطار عفى عليه الزمن، مُصمم لاستبقاء القوى الكولونيالية في عالم تغير كثيراً منذ نهاية عصر الاستعمار. إننا قلقون من أن هذه السرديات المؤسسية التاريخية والنيوليبرالية والمقترحات الأخرى ذات الصلة، لم تتغير كثيراً منذ اتفاقات بريتون وودز، وهي مستمرة في الترويج لرأسمالية مالية، تؤدي إلى زيادة استدانة الدول. على سبيل المثال، فإن صندوق الخسائر والأضرار (وهو آلية التمويل الجديدة لمساعدة الدول على التصدي لآثار تغير المناخ) سوف يستضيفه البنك الدولي، ويفرض نفس الآليات والمشكلات التي نشهدها في الديون، ما سيدفع الدول التي أسهمت أقل الإسهام في الأزمة المناخية إلى دوامة الديون غير المستدامة.


 

وهذا العام، تطالب الحركة العالمية المتنامية ضد الديون صندوق النقد والمؤسسات المالية العالمية واللاعبين الماليين الآخرين، إلى التفكير بجدية في المقترحات من المعسكر المناهض للرأسمالية والنيوليبرالية، مع السعي إلى الاعتراف بحقوق الإنسان في تطوير الخطط وبرامج التمويل. ما هي الحدود الخاصة بفرض السياسات الاقتصادية النيوليبرالية للدول التي تواجه أعباء الديون السيادية غير المستدامة؟

لقد أصبح من الظاهر للعيان أن في ظل الهيمنة النيوليبرالية للرأسمالية المالية التي تحركها الأطراف الخاصة النافذة في الدول الغنية، أن الديون ستصبح بشكل مطرد أداة قوية في يد الإمبريالية الاقتصادية، ستعيد تشكيل السياسات الاقتصادية وتيسّر السلب القائم للجميع، لصالح قلة قليلة من المصالح الخاصة.


على ذلك، فإن المجتمعات تتغير: فالحركات الاجتماعية أصبحت أكثر قوة، والمعايير الأبوية البطريركية وراء مجتمعنا – التي تعكس إخفاء الفئات المتضررة والتوزيع المجحف لأعمال الرعاية – يزيد انكشافها، وهناك حالياً أدلة قوية على مسؤولية الاقتصادات الصناعية والشركات في التسبب في التغير المناخي القائم. من الضروري تقديم حلول لتحقيق عدالة الديون، إذ أن الكثير من الأصوات من المجتمع المدني تطالب بهذا. إن التحديات كثيرة، وهي معقدة وتتطلب القدر الكبير من التفكير والتحليل السياسي. لكن لا توجد حياة مستدامة وقابلة للاستمرارية في ظل سياسات النيوليبرالية وإجراءات التقشف والإفقار والمنطق الاستخراجي. علينا أن نستمر في بناء السرديات الجماعية نحو البدائل التي تضع الناس والكوكب في القلب من السياسات، مع حشد ودعم المجتمعات لتستمر في نضالها من أجل حقوقها.