أعربت المحكمة في هذه القضية عن بالغ قلقها إزاء التهديد الذي يفرضه النزوح الداخلي على وجود الشعوب الأصلية في كولومبيا. وعزت هذا التهديد إلى ثلاثة عوامل رئيسة: تقويض الهياكل وتفكك المجتمع؛ (2) والصدمة الثقافية خارج أرض الأسلاف؛ (3) والوقوع في براثن العنف.
تعود أسباب تفكك مجتمعات الشعوب الأصلية إلى التهديدات التي تطال أرض أسلافهم، فضلاً عن التهديدات التي تعرضوا لها في البيئة الحضرية أثناء النزوح وما بعده. في ما يتعلق بالسبب الأول، كان احتلال الفصائل المسلّحة لأراضي الشعوب الأصلية منتشرًا ومستمرًا طوال فترة النزاع المسلّح. تُستخدم هذه الأراضي ساحات للقتال، وتُزرع فيها الألغام، ويجري تحويلها إلى مراكز عمليات الفصائل المسلّحة، وقد احتلتها بصفة عامة جهات مسلّحة.
لم تولّد هذه الأفعال الخوف والتوتر في نفوس الشعوب الأصلية خشيةً على أمنها ورفاهيتها وحسب، بل أدت إلى استهداف هذه الشعوب من قبل الجهات المسلحة. وجدت المحكمة أن الشعوب الأصلية كثيرًا ما تُتهم بأنها متعاونة، وأنها تزج بالمخبرين في النزاع بين الفصائل. ما يعني أنها لا تحظى بثقة الفصائل المسلّحة أو فصائل الدولة أو سواهما. ولما كانت هذه الشعوب عالقة في المنتصف، فإن الفصائل المسلّحة المختلفة تتعامل معها بشك وريبة.
أدى استهداف الشعوب الأصلية إلى تزايد شدة العنف الممارس ضدها. على سبيل المثال، انطوت الأنشطة المسلّحة على عمليات قتل ممنهج خارج نطاق القضاء استهدفت زعماء الشعوب الأصلية الذين يحاولون الدفاع عن مجتمعاتهم. وأقدمت الفصائل المسلّحة على تدمير المنازل وإتلاف المحاصيل، والحد من حركة السكان الأصليين في أراضيهم، وسلب الغذاء والسلع، وتجنيد القصّر قسرًا في العمليات العسكرية، وإجبار النساء والفتيات على ممارسة البغاء، وقتل المدرسين والمدافعين عن حقوق الإنسان وتهديدهم، واستخدام الشعوب الأصلية دروعًا بشرية أثناء تبادل النيران، واحتلال الأماكن العمومية مثل المدارس والمراكز المجتمعية.
فضلًا عن الفصائل المسلّحة التي تعدّت على أراضي الشعوب الأصلية، استغلت جهات خارجية ثالثة مُشاركة في الأنشطة غير الشرعية على تلك الأراضي، الفوضى الناجمة عن الصراع المسلّح لاحتلال أراضي الشعوب الأصلية لممارسة أنشطتها غير المشروعة المدرّة للأرباح. وكان هذا الأمر يسيرًا بسبب عدم حيازة الشعوب الأصلية صكوك ملكية لأرض أسلافها، فتجرأت الأطراف على “غزو” الأراضي المذكورة لممارسة أنشطتها غير الشرعية التي تشمل التعدين، والمزارع الأحادية النوع، وقطع الأخشاب، وجملة أمور أخرى. تتعارض هذه الأنشطة مع علاقة الشعوب الأصلية بأرضها، مما يعيق قدرة هذه المجتمعات على توريث القيمّ الثقافية والمعارف المرتبطة بالأرض ارتباطًا وثيقًا. بالإضافة إلى ذلك، يتفاقم هذا الأمر بسبب عجز هذه الشعوب عن إيصال هذه المعرفة وتوريثها عندما تقع أراضيها فريسة الإزالة المفرطة للغابات والضرر البيئي الخطير.
كذلك، استخدمت الفصائل المسلّحة أثناء النزاع أراضي الشعوب الأصلية التي تحتلها لزراعة محاصيل مدرّة للربح مثل أوراق الكوكا. ما دفع الدولة إلى رش مساحات واسعة من مزارع أوراق الكوكا باستخدام الطائرات، الأمر الذي ثبتت آثاره المدمرة على حصول الشعوب الأصلية على الغذاء، والمياه الصحية غير الملوّثة، وعلى الصحة مثل مضاعفات الأمراض الجلدية والجهاز التنفسي.
أجبرت المعاناة المتفاقمة التي تعيشها الشعوب الأصلية في أرض أسلافها في كولومبيا على المغادرة بالآلاف. وقررت بغالبيتها التجمع في المناطق الحضرية والمدن حيث نشأت تحديات جديدة في هذه البيئة الجديدة. أولًا، أصبحت هياكل الشعوب الأصلية التي تعتمد بشدة على الروابط مع أرض الأسلاف مُهددة من غير هذا المؤشر المهم في المناطق الحضرية. علاوة على ذلك، إن ابتعاد الشعوب الأصلية عن أراضيها يمنعها من المحافظة على ذاكرتها وممارساتها الثقافية، وذلك لأنها عاجزة عن ممارسة الزراعة وتناول الأطعمة التقليدية وأداء الممارسات الطبية التقليدية من غير إمكانية الوصول إلى أراضيها. وتنتقل هذه الصدمة الثقافية إلى الأجيال الشابة التي تعيش في المدن والبيئات الحضرية حيث يتعذّر عليها أن تفهم حجم هذه المعايير الثقافية وأهميتها، مثل احترام كبار السن، من غير هذه المؤشرات الاجتماعية والثقافية.
بعيدًا من القضاء على الأعراف الثقافية، تواجه مجتمعات الشعوب الأصلية عوائق خطيرة تحول دون وصولها إلى الاحتياجات الأساسية، مثل عدم قدرة أفرادها على التحدث أو الكتابة باللغة الإسبانية أو قراءتها، وربما توجسهم من أجواء المدينة الصاخبة والواسعة، وقد لا يبلون بلاء حسنًا في الأماكن حيث يجهلون أقرانهم، مما يؤثر على تضامنهم مع مجتمعاتهم.
ويزيد التمييز الهيكلي الطين بلة. فقد وجدت الحكومة أن التمييز الهيكلي الذي تمارسه الدولة كان سببًا في الأوضاع المتردية والخطيرة الذي تعيشها الشعوب الأصلية في كولومبيا أثناء النزاع المسلّح. على سبيل المثال، أطلقت الدولة مشروعين يهدفان إلى فهم الوضع الخاص للشعوب الأصلية النازحة بسبب النزاع المسلّح، لكن المحكمة وجدت أن الدولة استغرقت سبع سنوات لتصميم سبل تنفيذ هذه البرامج. وأعربت عن الصدمة التي أصابتها إزاء “عدم الاكتراث العام” لحالة الهلع التي أُرغمت المجتمعات الأصلية على معايشتها طوال السنوات الماضية، وعدم الاكتراث هذا يمثل بحد ذاته استخفافًا بالمسلّمات الدستورية الأساسية التي تحكم دولة الرفاهية القائمة على قانون احترام التنوّع العرقي والثقافي” (ترجمتنا)
على وجه التحديد، تروي نساء الشعوب الأصلية أنهن اضطررن للكفاح من أجل تسليط الضوء على وضعهن وجعله مرئيًّا. ومما قالته إحدى النساء في جلسات الاستماع العامة:
رُميت على عاتقنا مسؤولية أسرنا، وقبلنا ممارسة الأنشطة التي لا تنتمي إلى تقاليدنا الثقافية، مثل العمل المنزلي أو بيع أجسادنا في أسوأ الأحوال. وأجبرنا على النضال من أجل الاعتراف بنا بصفتنا نازحات، ومن أجل الوصول إلى الصحة والحصول على تعليم لا يمت إلينا بصلة، ومن أجل تناول طعام غريب عن ثقافتنا وأجسادنا، ومن أجل المحافظة على أسرنا وعدم تفككها ونقل ثقافتنا إلى أطفالنا.
رأت المحكمة أن وضع الشعوب الأصلية النازحة داخليًّا يمس الحقوق الجماعية والفردية في الحياة، والسلامة الشخصية، وعدم التعرّض للمعاملة القاسية أو غير الإنسانية، والعيش بكرامة. ويأتي هذا على رأس الانتهاكات العديدة لحقوق الإنسان التي تمس السكان النازحين عمومًا على النحو الذي حددته المحكمة في الحكم رقم T-025 لعام 2004.
يعود العديد من السكان الأصليين إلى ديارهم، بعد أن تعذّر عليهم التعامل مع الآثار الخطيرة التي تهدد الوجود العرقي لمجتمعاتهم، فضلًا عن عوامل أساسية مثل الفقر المدقع، ليقعوا من جديد ضحايا للفصائل المسلّحة التي تحتل أراضي أسلافهم.
أدركت المحكمة الأولوية الرئيسة المتمثلة في منع إبادة الشعوب الأصلية، وأصدرت الأوامر التالية:
- في مهلة ستة أشهر، تنفيذ برنامج يكفل حقوق الشعوب الأصلية المتضررة من النزوح، ويشمل جانبيّ الوقاية من الآثار العديدة التي تطال الحقوق الإنسانية لهذه المجتمعات والتخفيف من وطأتها؛
- واتخاذ تدابير حماية محددة للمجموعات العرقية الثلاثين المعرضة لخطر الانقراض، بما في ذلك منع النزوح الداخلي.