يشارك
الثلاثاء, أغسطس 26, 2025

أصدرت محكمة البلدان الأميركية لحقوق الإنسان فتوى تاريخية (رقم 31/25)، تعترف فيها بالرعاية حقًّا إنسانيًّا مستقلًا. وخلصت المحكمة إلى أن لجميع الأفراد الحق في تلقي الرعاية وتقديمها في ظروف تضمن الكرامة، فضلًا عن الحق في رعاية أنفسهم. ويشمل ذلك ضمان الحصول على الوقت والموارد والدعم اللازم للعيش بكرامة واستقلالية، مع إيلاء اهتمام خاص للأشخاص في أوضاع هشّة.

يشارك
OFRANEH(18)
OFRANEH(20)

للمرة الأولى، تعترف محكمة دولية بالرعاية بوصفها حقًّا مستقلًا من حقوق الإنسان. كما أقرت المحكمة بترابط هذا الحق مع غيره من حقوق الإنسان، بما في ذلك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. وجاء ذلك استجابةً لطلب تقدمت به الأرجنتين، حيث تناولت المحكمة في فتواها الموجَّهة إلى الدول المطالب التي دأبت الحركات النسوية والحقوقية على رفعها منذ سنوات، بما في ذلك الشبكة العالمية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وثلاثون من أعضائها الذين قدّموا حججًا قانونية وعرضوا خبرات وتجارب معيشة أسهمت في مداولات المحكمة.

أشارت مايكا بالاغير، المديرة التنفيذية لـمؤسسة سياسات التنمية البديلة، إلى أنّه ما يزيد على 265 جهة فاعلة قدمت ما مجموعه 129 مذكرة مكتوبة، مما يجعلها ثاني أكثر العمليات مشاركة في تاريخ المحكمة. وأضافت أنّه في آذار/مارس 2024، حضرت المؤسسة جلسات الاستماع العلنية التي عُقدت في سان خوسيه، كوستاريكا، إلى جانب الشبكة العالمية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حيث ساهم ما يقارب 70 وفدًا في نقل وجهات نظر منظمات المجتمع المدني في أميركا اللاتينية. وأكدت بالاغير أنّ المشاركة ركزت على إبراز الحاجة إلى صياغة ميثاق اجتماعي جديد يتمحور حول الرعاية باعتبارها أساسًا لاستدامة الحياة.

أكدت المحكمة أن الرعاية عنصر أساسي في استدامة الحياة وصون الكرامة، غير أنها ما زالت تعاني من تدنّي قيمتها وتوزيعها على نحو غير متكافئ. فقد ذكرت منظمة العمل الدولية في تقاريرها، أن النساء يؤدين 76.2% من أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر على مستوى العالم، ويقضين في إنجازها أكثر من ثلاثة أضعاف الوقت الذي يقضيه الرجال في هذه المهام الحيوية. ويشكّل هذا العبء عاملًا مقيّدًا لاستقلالية النساء وفرصهن، كما يسهم في ترسيخ أوجه عدم المساواة البنيوية على الصعيد العالمي.

يبين هذا السياق الأهمية البالغة لقرار المحكمة. فقد وجهت المحكمة بتأكيدها القانوني للرعاية بوصفها حقًّا من حقوق الإنسان، رسالة واضحة مفادها أن الرعاية ليست عبئًا خاصًا أو واجبًا شخصيًّا، إنما مسؤولية اجتماعية جماعية. وبناءً عليه، يتعين على الدول العمل على تفكيك الأنظمة التي تنتقص من قيمة الرعاية وتكرّس الظلم القائم على النوع الاجتماعي. كما يتعين عليها، في إطار كفالة الحق في الرعاية، أن تضمن توفير رعاية صحية شاملة، بما في ذلك الخدمات الصحية الجنسية والإنجابية، فضلًا عن أشكال أخرى من التقديمات العامة.

علاوة على ذلك، اعترفت المحكمة بأن التوزيع غير المتكافئ لأعمال الرعاية، التي تضطلع بها النساء والفتيات في المقام الأول، يشكّل حاجزًا بنيويًّا أمام تحقيق المساواة الفعلية. وأقرت المحكمة بأن أشكال التمييز المتقاطعة، القائمة على أساس النوع الاجتماعي والعرق والعمر ووضع الهجرة والإعاقة والموقع الاجتماعي والاقتصادي، تعمّق أوجه عدم المساواة وتقيّد إمكانية الوصول إلى حقوق أساسية مثل التعليم والعمل والمشاركة السياسية. ودعت المحكمة الدول إلى اعتماد إصلاحات بنيوية لمعالجة هذه المظالم.

وتحقيقًا لهذه الغايات، حدّدت المحكمة التزامات ملموسة يتعين على الدول الوفاء بها، ومنها:

  • الاعتراف بالقيمة الاجتماعية والاقتصادية لأعمال الرعاية، سواء كانت مدفوعة الأجر أم غير مدفوعة الأجر، والحد من أعباء الرعاية والعوائق المرتبطة بها، وإعادة توزيع مسؤوليات الرعاية.
  • معالجة أعباء أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر، التي تتحملها النساء بدرجات غير متناسبة، عن طريق إنشاء أنظمة رعاية شاملة، وإقرار الإجازات الوالدية، واعتماد سياسات عمل مرنة، وتوسيع نطاق الوصول إلى الضمان الاجتماعي.
  • كفالة حقوق العمال وتعزيز الحماية الاجتماعية للعاملين في مجال الرعاية، سواء كانت مدفوعة الأجر أم غير مدفوعة الأجر.
  • ضمان وصول شامل ومنصف إلى خدمات رعاية عالية الجودة.
  • اعتماد إصلاحات قانونية وسياسات عامة وتخصيصات ميزانية تهدف إلى تفكيك القوالب النمطية القائمة على النوع الاجتماعي ومعالجة أوجه عدم المساواة البنيوية.

أوضح كارلوس أندريس بيريس أن هذا القرار أسّس إطارًا قانونيًّا واسعًا يرشد الدول في وضع  ضوابط تنظيمية متينة تتماشى مع المعايير التي حدّدها الحكم نفسه. واعتبر أن هذا التطور يعد إنجازًا مهمًا في تحديد نطاق هذا الحق ومضمونه، ليغدو مرجعًا أساسيًّا في صياغة القوانين والسياسات الكفيلة بضمانه.

يمنح هذا الحكم قوة متجددة للميثاق الاجتماعي للرعاية الذي أعدّته الشبكة العالمية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، باعتباره مقترحًا جماعيًّا يهدف إلى إعادة النظر  بالطريقة التي تُقدَّر بها الرعاية وتُوزَّع وتُحمى. ويقدّم الميثاق رؤية نسوية جريئة تستند إلى الخطوات الستة المعروفة بـ “6Rs”، وهي: الاعتراف، وإعادة التوزيع، والخفض، والحقوق، والتمثيل، وإعادة تأطير الاقتصاد بوصفه اقتصادًا للرعاية.

أشارت كلاوديا لازارو من اتحاد صناعة الجلود في الأرجنتين إلى أنه لا يمكن تصوّر اقتصاد يقوم على السوق وحده. وأوضحت أن صياغة الميثاق استندت إلى رؤى متنوعة من مختلف أنحاء العالم، بهدف إعادة التفكير في الرعاية من خلال الاعتراف بها، وإعادة توزيعها، وتقليص أعبائها، والتمثيل، وإعادة صياغة الاقتصاد في إطار إعمال حقوق الإنسان. وأضافت أن المحكمة أيّدت هذا التوجه واعترفت بالرعاية بوصفها حقًّا مستقلًا، معتبرة أن الاعتراف بالميثاق يعني أيضًا الاعتراف بالعدالة القائمة على النوع الاجتماعي وبالأصوات المتقاطعة للنساء. وأكدت أن المحكمة قدّمت بذلك أداة إضافية تتيح المطالبة، في مختلف البلدان، ببناء نظام رعاية عادل ومنصف يضع الإنسان ورعاية الكوكب في صميم أولوياته.

ما التالي؟

في خضم تنامي الأجندات المناهضة للحقوق وتراجع السلع العامة، يأتي قرار المحكمة تأكيدًا قويًّا  للرعاية بوصفها حقًّا قانونيًّا وأولوية سياسية ملحّة. كما يوفّر للحركات النسوية وحركات حقوق الإنسان أداة أساسية لدفع عجلة بناء أنظمة تتمحور حول الرعاية، وترتكز إلى مبادئ المساواة الجوهرية والتضامن والاستدامة.

أشارت تشارلين ماي من المركز القانوني النسائي في جنوب أفريقيا إلى أن الفتوى تمنح  طاقة جديدة لهذا العمل الحيوي والحساس، خاصة بالنسبة للحركات النسوية التي تناضل من أجل الاعتراف بالحق في الرعاية وأعمال الرعاية. وأوضحت أن الفتوى تؤكد أنه لا ينبغي انتظار وقوع أزمة عالمية أخرى لتطبيق ما يُعدّ حقوقًا إنسانية أساسية.

يضع هذا الحكم معيارًا قانونيًّا إقليميًّا جديدًا، ومع ذلك ستواصل الشبكة العالمية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية جهودها في المناصرة وتنظيم الحملات لضمان ترجمة الحكم إلى تغيير ملموس في القانون والسياسات العامة، وتقديم الخدمات العامة، وفي الحياة اليومية في أنحاء أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي والعالم عمومًا.

أوضحت كلاريبيد بالاسيو، رئيسة الاتحاد الكولومبي الأفريقي للعمال المنزليين، أن على الدول تلبية احتياجات جميع المجتمعات لضمان استفادة كل فرد استفادة كاملة من سياسات الرعاية. وأكدت أن غياب الرعاية يقود إلى تعثر العدالة الاجتماعية، والتي بدورها تؤثر على إعمال حقوق الإنسان. لذلك، شدّدت بالاسيو على ضرورة أن تعتمد الدول خطة الرعاية باعتبارها حقًّا أساسيًّا وأن تعترف بها ركيزة لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين، مع التخلي عن الموروثات التاريخية التي ركّزت مسؤولية الرعاية على النساء على نحو شبه حصري.