يشارك
الجمعة, سبتمبر 8, 2023
يشارك

خلّف النزاع المسلّح في كولومبيا الذي دام عقودًا العديد من القتلى والجرحى وتسبب بصدمات واسعة، وأحدث تغييرات لا رجعة فيها في نسيج المجتمع الكولومبي. وكان النازحون قسرًّا الفارّون من العنف والفقر الناجمين عن الصراع من الفئات الأشد تضررًا في هذا الصراع. في عام 2004، أعلنت المحكمة الدستورية في كولومبيا في حكمها الصادر في القضية T-025 عن الوضع المنافي للدستور في ما يتعلق بالسكان النازحين، في اعتراف رسميّ بالأثر غير المتناسب للانتهاكات الناجمة عن النزاع على النازحين.

بادرت المحكمة إلى هذا الإعلان بعد أن غصّ نظام المحاكم بطلبات المساعدة والإغاثة المقدّمة من النازحين؛ وهذا النظام أنشأته الحكومة الوطنية الكولومبية، بصفة مؤقتة، لمعالجة محنتهم المستمرة. لذلك قررت المحكمة، مدفوعة بسيل من آلاف الالتماسات، معالجة هذه القضايا بطريقة هيكلية وليست فردية. وعلى هذا النحو، ستصل الإغاثة إلى عدد أكبر من النازحين غير أولئك الذين تجاوزوا عقبات هائلة للتمكن من عرض قضاياهم أمام المحكمة.

يُعد الحكم رقم T-025 والأوامر اللاحقة مثالاً واضحًا على قيام سلطة قضائية ملتزمة في كولومبيا تتخذ خطوات إيجابية لمعالجة القضايا الهيكلية التي يعاني منها المجتمع الكولومبي في سياق النزاع المسلح. إن القضاء بإعلانه عن الوضع المنافي للدستور، تمكّن من إنشاء آلية إشراف تراقب التحسينات التي أُمِرت الحكومة  الوطنية بتنفيذها. في الواقع، لم تكتفِ المحكمة بإصدار القرار رقم T-025  معلنةً حالة الطوارئ، بل أصدرت أيضًا بين عامي 2004 و2020 أوامر لاحقة تقدّم تحليلاً تفاضليًّا للحواجز متعددة الجوانب التي تواجهها مجموعات متمايزة من السكان النازحين الذين يتعرضون، بسبب هوياتهم، لضرر بدرجة لا تتناسب والضرر الذي يصيب سائر السكان النازحين. تشمل الأوامر المذكورة موضوعات النساء والشعوب الأصلية والكولومبيين المنحدرين من أصل أفريقي والأشخاص ذوي الإعاقة والأطفال والمدافعين عن حقوق الإنسان، بالإضافة إلى آثار العنف الجنسي  وجائحة كوفيد 19 على السكان النازحين.  وقد تضمّن كل أمرمجموعة من الخطوات التي يتعين على الحكومة تنفيذها للاقتراب خطوة من إنهاء الوضع المنافي للدستور. أخيرًا، لكل أمر إجراء متابعة خاص به يضمن الامتثال لأوامر المحكمة.

على الرغم من الأحكام التاريخية المتمثلة في القرار رقم T-025  والأوامر اللاحقة، التي تُعزز الوصول إلى العدالة، كان تنفيذ هذه القرارات غائبًا بشدة. إذ لا يزال الوضع المنافي للدستور سائدًا في كولومبيا حتى اليوم. لقد اعترفت المحكمة بإحراز الحكومة الوطنية شيئًا من التقدّم، مع ذلك يتعين عليها تحقيق الكثير من الإنجازات لضمان حماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وسائر الحقوق للسكان النازحين في البلاد.

النقاش

في الفقه القانوني الكولومبي، ينشأ الوضع المنافي للدستور عندما يكون هناك (1) انتهاك جسيم ومتكرر للحقوق الأساسية لمجموعة من السكان؛ (2) وعندما لا يُعزى الانتهاك الهائل للحقوق الأساسية إلى ظرف فريد ومحدد، بل عندما يكون هيكليًّا في جوهره ويرتبط بالإخفاقات الحكومية النظامية تجاه السكان المعنيين؛ (3) وعندما تكون المطالبات الفردية غير كافية؛ (4) وعندما يكون هناك حاجة إلى إغاثة كبيرة لمجموعة أوسع من السكان المتضررين.

كان حجم الانتهاكات الهيكلية لحقوق النازحين جليًّا في عام 2004. فقد وجدت المحكمة في العام المذكور أنّ الاحتياجات الأساسية لـ 92% من النازحين غير ملباة، وأنّ 80% من النازحين يعيشون في فقر، و63.5% يعيشون في مساكن غير آمنة، ويتعذّر على 25% منهم الوصول إلى المرافق العامة المناسبة. في ما يخص التعليم، بلغت نسبة الأطفال النازحين الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و9 سنوات ممن لم يقصدوا المدرسة 25%، وهناك ما يزيد على نصف النازحين من الشباب (54%) الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و25 سنة لم يقصدوا المدرسة أيضًا. في ما يخص الصحة، كانت معدلات الوفيات بين الأشخاص الذين يعانون النزوح أعلى بستة أضعاف من المعدل الوطني.

في ظل هذه الظروف القاسية، انصب اهتمام المحكمة على انتهاك (1) الحق في الحياة؛ (2) الحق في الكرامة، والسلامة الجسدية والنفسيّة والمعنويّة؛ (3) الحق في الأسرة ووحدتها؛ (4) الحق في الكفاف الأساسي، والحق الأساسي في الحد الأدنى من دخل الكفاف الذين يضمن الحصول الآمن على الاحتياجات الأساسية من غذاء وماء ومأوى ومسكن، والملابس اللائقة، والخدمات الطبية الأساسية والمرافق الصحية، وهذا يشمل المساعدة الإنسانية العاجلة والمساعدة الخاصة للأشخاص غير القادرين على الاضطلاع باكتفائهم الذاتي مثل الأطفال وكبار السن ومقدمّات الرعاية؛ (5) والحق في الصحة؛ (6) والحق في عدم التعرض للتمييز على أساس حالة النزوح؛ (7) والحق في التعليم حتى سن الخامسة عشرة.

ثانيًّا، لم تُنسب الأزمة إلى جهة حكومية واحدة. فقد كان القصور في تمويل البرامج المخصصة للنازحين منتشرًا في مختلف الجهات الحكومية. علاوة على ذلك، وجدت المحكمة أن الدول أخفقت في تنوير النازحين بطريقة مناسبة عن المسارات القانونية المختلفة التي يُمكن اتباعها للحصول على الإغاثة، ومن ثمّ حرمتهم من الاستفادة من الموارد (الدنيا) التي توفرها لهم الدولة. ومما زاد الطين بلة قيام الحكومة بربط توفير المساعدة بتقديم طلبات إغاثة معينة كان يجهلها أشخاص كُثر وتعذّر حصولهم عليها بالنتيجة. طبق هذا القرار أيضًا إطار “الوضع المنافي للدستور” بسبب إسهام كيانات متعددة في الانتهاكات المستمرة.

ثالثًا، لم تكن الطلبات الفردية بالحصول على الإغاثة كافية لمعالجة الانتهاكات قيد النظر. فعلى النحو الآنف الذكر، لم يكن العديد من النازحين على علم بالإغاثة التي يُمكنهم تلقيها. مع ذلك، حتى وإن استمعت المحكمة إلى كل طلب إغاثة، فإن الحكومة لم تخصص ما يكفي من الأموال لتوفير الإغاثة التي أمرت بها المحكمة بطريقة صحيحة. علاوة على ذلك، إن نوع المساعدات المخصصة التي كانت نقدية بمعظمها، لم يرق إلى مستوى التغيير الهيكلي المطلوب في المجتمع الكولومبي لجبر الأضرار التي لحقت بالنازحين جبرًا حقيقيًّا.

استطاعت المحكمة، بإعلانها عن الوضع المنافي للدستور، تحديد واجبات الحكومة الوطنية والتزاماتها الدستورية المختلفة، وإصدار أمر باعتماد سياسات محددة للشروع في معالجة المشكلات الهيكلية التي أصابت الاستجابة الوطنية إزاء الأشخاص النازحين قسرًا. فقد أكّدت المحكمة أن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يفرض على الدول إلى جانب واجباتها الدستورية، وضع سياسات عامة تؤدي إلى الإعمال التدريجي للحقوق المنصوص عليها في العهد وتنفيذ هذه السياسات، لافتةً إلى أن “التراخي غير مسموح به”؛ وأنّه يتعين على الدول استخدام “جميع الوسائل المناسبة”، بما في ذلك القانونية منها والإدارية والمالية والتعليمية والاجتماعية؛ وأن التدابير يجب أن تستهدف تعزيز التمتع بالحقوق “والاستفادة الكاملة من الحد الأقصى للموارد المتاحة.”

يتضمن قرار المحكمة ثلاثة عناصر رئيسة. أولاً، كلفت المحكمة المجلس الوطني  المعني بالمساعدة الشاملة للنازحين بسبب العنف (المجلس) تصميم خطة عمل وتنفيذها للتغلب على مُشكلة عدم كفاية الموارد والعيوب التي تعتري القدرات المؤسسية. يُذكر أن المجلس هو الهيئة المولجة بصياغة السياسة وتأمين الميزانية للنازحين. وأمهلت المجلس شهرين لتحديد حجم الجهد المطلوب في الميزانية، وتحديد سبل إسهام الدولة والكيانات الإقليمية والتعاون الدولي في هذا الجهد. ثانيًّا، أمرت المحكمة الوكالات الإدارية المعنية بتلبية آلاف طلبات المساعدة التي قُدمت بالفعل من غير مماطلة. أخيرًا، عقدت المحكمة في إطار عملية الإشراف، جلسات استماع بين عامي 2007 و2008، بشأن مجموعات محددة معرضة للخطر بين السكان النازحين، وذلك للمباشرة في معالجة وضعها وإصدار أوامر أشد تحديدًا مصممة خصيصًا لتلبية احتياجات كل مجموعة فرعية.

باء. الأوامر اللاحقة [Autos de Seguimiento]

وثّقت قرارات المحكمة اللاحقة للقرار T-025، المسماة بالأوامر اللاحقة (Autos de Seguimiento) بصورة نظامية ظروفًا محددة يختبرها النازحون تُشكّل انتهاكًا للحقوق الأساسية. واستعانت المحكمة بها في تعزيز تحليل متعدد الجوانب ومتمايز لتأثير النزاع المسلّح والنزوح بدرجات غير متناسبة في مجموعات معينة، أي النساء والأطفال، والشعوب الأصلية والكولومبيين المنحدرين من أصل أفريقي، والمدافعين عن حقوق الإنسان، والأشخاص ذوي الإعاقة. ونظرًا للنقص الكبير في الإبلاغ عن هذه المجموعات وإخفائها على نطاق واسع، جاءت عملية توثيق أوضاعها المحددة خطوة أولى مهمة باتجاه فهم نطاق التدابير المطلوبة لمعالجة الضرر الذي مسّها.

ساعدت عملية مسح المخاطر والأضرار التي لحقت بالنازحين المحكمة  في إصدار أوامر تقضي بوضع برامج مصممة خصيصًا لتلبية هذه الاحتياجات المحددة. فقد حدد الأمر رقم 092 لعام 2008، على سبيل المثال، ثماني عشرة طريقة يؤثر بها النزوح القسري على النساء على نحو متباين ومحدد وحاد بسبب جنسهن. شمل بعضها العنف القائم على النوع الاجتماعي داخل الأسرة وفي المجتمع؛ وانتهاك الحقوق الإنجابية، والعوائق المتفاقمة التي تحول دون الوصول إلى التعليم، والعوائق المتفاقمة التي تحول دون الوصول إلى العمل/الدخول إلى سوق العمل، والاستغلال في العمل المنزلي بما في ذلك الاتجار بالبشر، والعوائق المتفاقمة التي تحول دون امتلاك الأراضي. وحددت المحكمة أيضًا عشرة مخاطر رئيسة تُحدق بالنساء في سياق النزاع المسلّح والنزوح، شملت العنف الجنسي والاستغلال أو الاعتداء الجنسي، والاضطهاد، والاغتيال، والاختفاء القسري، والخطر الناجم عن تفكك شبكة الدعم الاجتماعي للنساء. استجابة لهذا الواقع، أمرت المحكمة بإنشاء 13 برنامجًا تُصمم خصيصًا لتلبية احتياجات النساء الأشد إلحاحًا، بما في ذلك منع العنف الجنسي ضد المرأة، ومنع العنف داخل الأسرة والمجتمع، ودعم ربّات الأسر، والوصول إلى فرص العمل ومنع الاستغلال المنزلي واستغلال العمالة، والدعم التعليمي للنساء بعمر 15 عامًا وما فوق، وجملة أمور أخرى.

ردًّا على لجوء الفصائل المسلّحة (بما فيها الجيش) إلى الاستخدام النظامي للعنف الجنسي ضد النساء لاحتكار السيطرة على المجتمعات، أمرت المحكمة في الأمر رقم 009 لعام 2015، وزارة التعليم بتنظيم حملات تثقيفية عامة إلزامية عن التمييز بين الجنسين والعنف القائم على النوع الاجتماعي، لا سيما في المناطق حيث يتركز النازحون. وأمرت المحكمة بإخضاع الجيش الكولومبي لدورات تدريبية تتناول العنف الجنسي، كما أمرت كلًّا من الوحدة الإدارية الخاصة المعنية برعاية ضحايا النزاع المسلّح وتعويضهم بالكامل، والمركز الوطني للذاكرة التاريخية، والمفوض السامي المعني بإنصاف المرأة بتنفيذ مشروعات الذاكرة والحقيقة والمصالحة. سعيًّا من المحكمة إلى مكافحة النقص المتفشي في إحصاء جرائم العنف الجنسي، أمرت بتشخيص شامل لتأثير التمييز والعنف الهيكيلي القائم على النوع الاجتماعي في وسائل الإعلام والمجال الاقتصادي والحياة الاجتماعية، والمجالات الثقافية والإنتاجية والتعليمية وغيرها.

يؤدي تقاعس الدولة عن الاعتراف بمجموعات معينة والإخفاق في إحصائها إلى زيادة أعمال العنف بحق السكان النازحين. لذلك، ناقشت المحكمة افتقار الدولة إلى بيانات رسمية عن الأشخاص ذوي الإعاقة، وذكرت في الأمر رقم 251 لعام 2008: “لما كان الأشخاص ذوو الإعاقة غائبين عن النظر، كان الافتراض أنهم غير موجودين، ومن ثمّ لم يُدرجوا.” كذلك، طال النقص الكبير في الإحصاءات النازحين الكولومبيين المنحدرين من أصل أفريقي. ويتكرر هذا الأمر أيضًا في تجارب النازحات من الشعوب الأصلية، اللاتي أطلعن المحكمة على نضالاتهن من أجل اعتراف الدولة بهن، والاعتراف بهن بصفتهن نازحات للحصول على المساعدة.

في الواقع، أسهم لجوء المحكمة إلى توثيق مشكلات محددة يعاني منها السكان النازحون في مكافحة إغفال الشعوب الأصلية، ولا سيما فيما يتعلق بالشعوب الأصلية التي تتعرض أساليب حياتها للتهديد بسبب النزوح. يوثّق الأمر رقم 004 لعام 2009 كيف يؤدي النزوح إلى إفناء الأعراف الثقافية التي تربط الشعوب الأصلية بأراضي أسلافها، وانتقال هذه الشعوب إلى مناطق حضرية لا تتحدث لغتها، حيث يتعذّر عليها الوصول إلى غذائها الطبي والتقليدي، وتُجبر على ممارسة أنشطة لا تنسجم مع تقاليدها الثقافية، من قبيل العمل المنزلي. استجابت المحكمة للطابع الملّح لهذه الأزمة فأمرت الحكومة، في مهلة لا تتجاوز ستة أشهر، بما يلي: (1) تنفيذ برنامج يكفل حقوق المجتمعات الأصلية المتضررة من النزوح، ويجب أن يشمل جانبيّ الوقاية من الأضرار العديدة التي لحقت بحقوق الإنسان والتخفيف من وطأتها؛ (2) ووضع تدابير حماية محددة لجميع المجموعات العرقية الثلاثين المهددة بالانقراض، بما في ذلك منع النزوح الداخلي.

يخلص الأمر رقم 005 لعام 2009 إلى أن النازحين الكولومبيين المنحدرين من أصل أفريقي، مثل السكان الأصليين، يتعرضون بشدة لخطر (1) انتهاك الاستقلال الذاتي الإقليمي؛ (2) وتدمير الأراضي الجماعية؛ (3) وانتهاك حقوق الإنسان المتعددة، بما في ذلك السيادة الإقليمية، والحق في المشاركة، والاستقلال الذاتي، والهوية الثقافية، والتنمية في إطار التطلعات الثقافية للمجتمع، والأمن، وسيادة الغذاء، والحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والثقافية المتعددة؛ (4) وتفاقم العنصرية والتمييز؛ و(5) والعجز عن إعمال حقها في التشاور والموافقة الحرة والمسبقة والمستنيرة. تمثلت استجابة الحكومة في تصميم سبل انتصاف محددة شملت خططًا للمساعدة الإنسانية الفورية، ومنع النزوح؛ والحد من التمييز ضد السكان الكولومبيين المنحدرين من أصل أفريقي؛ وتوفير السكن والدخل للنازحين؛ وحماية النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمعات الكولومبية الأفريقية الأصل؛ وإعادة النازحين الكولومبيين المنحدرين من أصل أفريقي إلى أراضيهم. لفتت المحكمة إلى أنه وبسبب التمييز العنصري، لم يكن بحوزة المجتمعات الكولومبية المنحدرة من أصل أفريقي في وقت النزاع صكوك ملكية سليمة للأراضي التي تشغلها جماعيًّا، مما سهّل على الفصائل المسلّحة وجماعات المصالح الاقتصادية غير الشرعية غزو هذه الأراضي وتشريد المجتمعات الأصلية قسرًّا. وبالمثل، عندما حاولت المجتمعات العودة إلى أراضيها لم تتمكن من تقديم دعاوى رسمية لعدم حيازتها صكوك ملكية.

انبثق عن قضايا  الأوامر نمط جديد مهم يُبين كيف أدى النزاع والنزوح الناجم عنه إلى  تفاقم الفوارق القائمة أصلًا في المجتمع الكولومبي قبل النزاع. على سبيل المثال، انخرطت المحكمة في الأمر رقم 092، في تحليل مهم لسبب معاناة النساء والمدافعات عن حقوق الإنسان، بدرجات غير متناسبة، من النزاع المسلّح والنزوح. إذ تتعرض المدافعات عن حقوق الإنسان  للاضطهاد والاعتداء بسبب هوياتهن الجنسانية وبسبب أدوارهن القيادية والتنظيمية. في ما يخص الهوية الجنسانية، يُعد العنف ضد هؤلاء النساء “استراتيجية لترهيب المسؤولين، حيث تُستخدم الصوّر النمطية الذكورية السائدة وسيلةً لفرض أفعالهم أو تبريرها.” في ما يخص المدافعات عن حقوق الإنسان، قالت المحكمة ما يلي:

تنظر الجهات المسلّحة إلى هذه القيادة على أنها أفعال تُقوّض الأدوار النسائية المنوطة بالمرأة في المجتمع الأبوي أو تشجع على تجاهل هذه الأدوار، حيث يقتصر النموذج الأولي “للمرأة الصالحة” في هذا المجتمع  على تدخلها في المجال الخاص والعمل المنزلي ورعاية الزوج والأبناء والبنات والمُعالين. ما زالت المدافعات عن حقوق الإنسان يتعرضن للاضطهاد والاعتداءات لإدامة سمات العنف والتمييز الهيكلي بين الجنسين وتعزيزها، على الرغم من تصدي المدافعات عن حقوق الإنسان لهذه الأنماط الأبوية والقوالب النمطية التمييزية المقبولة على نطاق واسع.

وهكذا، تُهدد هذه القيادة “احتكار القوات المسلّحة للسيطرة”، ذلك أن المدافعات عن حقوق الإنسان قادرات على تنظيم المجموعات لمقاومة العنف النظامي الذي ترتكبه تلك القوات.

على النحو الوارد في الأمر رقم 006، إنّ التمييز القائم على أساس الإعاقة يتفاقم أيضًا في سياق النزوح عن طريق عدة عوامل منها: الاستبعاد من المساعدة بسبب التحيّز الهيكلي الذي يمارسه الموظفون العموميون؛ والعوائق المادية والعوائق التي تعرقل النقل (فضلًا عن مشكلات المسافة) عند محاولة الوصول إلى مراكز المساعدة؛  والحواجز التي تحول دون الوصول إلى المعلومات والاتصالات بشأن الحقوق القانونية؛ وفقدان شبكات الدعم (خطر التعرض للهجر أثناء النزوح).

لم تربط المحكمة الأثر غير المتناسب للنزوح والنزاع المسلّح على مجموعات متمايزة بالتمييز الهيكلي الواسع النطاق وحسب، بل ربطت هذه التجربة  بالمعاملة الخاصة التي يمارسها المسؤولون الحكوميون البيروقراطيون بالحرمان من المساعدة. فأمرت المحكمة، في مناسبات عديدة في الأوامر المختلفة، بتدريب الموظفين العامين في مختلف الوكالات  –من المصالح العامة إلى مكتب المدعي العام– وتثقيفهم في مجال الرعاية المستنيرة للأفراد الذين تعرضوا للصدمات، ونبذ أشكال التحيز والتحامل الطبقية والجنسية والعرقية. وقد شملت مجالات الاهتمام بمسألة الجبر عن طريق التدريب الاستبعاد من المساعدة بسبب التحيّز الهيكلي والتمييز من قبل الموظفين العموميين تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة؛ والمعاملة المهينة من قبل النيابة العامة للنساء اللاتي يحاولن رفع قضايا ضد الجناة؛ ورفض المسؤولين الاعتراف بقيمة عمل المدافعات عن حقوق الإنسان ووصفه بالمعوقات التي تعترض المؤسسات الحكومية.

تعتمد المحكمة مقاربة متعددة الجوانب. وعلى النحو الآنف الذكر، لاحظت المحكمة أنّ دور المدافعات عن حقوق الإنسان في مقاومة العنف الناتج عن النزاع المسلّح جعلهن أهدافًا للعنف من قبل الفصائل المسلّحة المختلفة التي ترى في القيادة النسائية تهديدًا للنظام الأبوي الراهن ولمصالحها. علاوة على لك، طبقت المحكمة هذا التحليل على الأثر غير المتناسب للنزاع المسلّح والنزوح على النساء الكولومبيات المنحدرات من أصل أفريقي والنساء ذوات الإعاقة. ووجدت على سبيل المثال، أن الفتيات المراهقات من السكان الأصليين يواجهن تهديدًا محدقًا بالتعرض للعنف الجنسي.  جاءت الإحصاءات التالية التي أشارت إليها المحكمة صاعقة:

  • بين عامي 2002 و2009، قُتل ما يزيد على ألف شخص من السكان الأصليين، 15% منهم من النساء والفتيات.
  • بين عامي 2008 و2011، 71% من قضايا العنف الجنسي المرتكبة بحق الأشخاص ذوي الإعاقة شملت النساء والفتيات.
  • بين عامي 2007 و2012، 97% من قضايا العنف الجنسي المرتكبة بحق الأشخاص ذوي الإعاقة شملت النساء.

وقد وثّقت آثار غير متناسبة مماثلة مست مراهقين من الشعوب الأصلية والكولومبيين المنحدرين من أصل أفريقي في ما يتعلق بالحصول على التعليم.

بالنظر إلى التباين في تجارب المجموعات المختلفة موضوع الأوامر ووجهات النظر التي قدّمتها، كان من المهم أن تُدخل المحكمة الأشخاص عينهم الذي عانوا من النزوح في المحادثة حول الطريقة المناسبة لمنح سبل الانتصاف. لقد كان هذا الأمر في صلب القرارات الصادرة عن المحكمة إلى الحكومة الوطنية بشأن جميع الأوامر.

فضلًا عن إنشاء البرامج المصممة، كان النوع الثاني من الانتصاف الذي أمرت به المحكمة ذا طبيعة إعلانية. فقد نصت المحكمة في الأمر رقم 092 على مقتضيين دستوريين في ما يتعلق بالنازحات: (1) يُشكّل النزوح القسري للنساء انتهاكًا خطيرًا لحقوقهن يفرض على السلطات تقديم حماية فورية؛ (2) والتوسّع التلقائي في تقديم المساعدات الإنسانية الطارئة للنازحات حتى يبلغن  حالة من الاكتفاء الذاتي وصون الكرامة والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. واعترفت في الأمرين رقم 004 و005 بمبدأ الموافقة الحرة والمسبقة والمستنيرة للشعوب الأصلية والمجتمعات القبلية الكولومبية المنحدرة من أصل أفريقي.

تمثّل النوع الأخير من سبل الانتصاف في تسوية الالتماسات الفردية التي رفعها النازحون، والتي أفضت إلى معالجة 18 ألف التماس من أجل الرضّع والأطفال والمراهقين، و600 طلب لحماية من النازحات، و183 حالة عن جرائم جنسية ارتكبت ضد النساء أثناء النزاع، وغير ذلك من الأمور.

التنفيذ

كانت القدرة على متابعة حالة تنفيذ الأوامر اللاحقة من بين آليات الرقابة المتاحة للمحكمة. فقد سمح ذلك بالمتابعة المتواصلة، وتوسيع الصلاحية القضائية للمحكمة في مختلف الأوامر مع مرور الوقت حتى تُنفذ الحكومة الوطنية أوامر المحكمة على نحو سليم. كان الغرض من عملية المتابعة رصد الإصلاحات الهيكلية التي تعالج الظروف التي أدت إلى الانتهاك الهائل للحقوق الأساسية. من ثمّ، ستنهي المحكمة الوضع المنافي للدستور بمجرد تمكنها من رؤية نتائج البرامج التي طالبت الدولة بتنفيذها، لا سيما التمتع الفعّال بالحقوق الأساسية، لأنها لن تكتفي ببساطة بالتنفيذ الروتيني للأوامر.

وضعت المحكمة معايير مرنة لمستويات الامتثال العالي والمتوسط والمتدني ولعدم الامتثال، كي تقيّم التقدّم الذي تحرزه الحكومة. تحقق الامتثال العالي عندما دمجت الحكومة أوامر المحكمة بالكامل وعندما دلّت النتائج على إحراز تقدّم فعليّ في ظروف السكان النازحين. أشار الامتثال المتوسط إلى تنفيذ بعض الخطط التي أمرت بها المحكمة أو معظمها وظهور بعض علامات التقدّم الإيجابية. لوحظ الامتثال المتدني عندما وضعت الدولة خططًا معيبة وسيئة التنفيذ أظهرت نتائج جزئية أو محدودة. أخيرًا، لوحظ عدم الامتثال حيثما لم يكن هناك أي خطط أو إجراءات على الإطلاق لتحسين ظروف السكان النازحين.

وجدت المحكمة في جميع الأوامر الآنفة الذكر أن امتثال الدول كان متدنيًّا. ففي معظم الحالات، لم تستوفِ الدولة الشروط الأساسية  التي حددتها المحكمة. ووجدت في أحيانٍ كثيرة أن الدولة  لم تقدّم معلومات وافية عمّا تبذله من جهود لاستكمال البرامج. في الأمر 098 الصادر بعد خمس سنوات على صدور الأمرين 092 و009، على سبيل المثال، وجدت المحكمة أن الحكومة الوطنية لم توفر أي معلومات مهمة عن تنفيذ البرامج المطلوبة.  وبعد مرور عامين على ذلك، أي سبع سنوات على صدور الأمرين 092 و009، لم تتلق المحكمة أي معلومات مقنعة عن الإنشاء الفعلي للبرامج وتنفيذها على النحو المنصوص عليه في الأوامر الأصلية. عمليًّا، يُشير هذا الأمر إلى أن النساء ما زلن يعانين من التبعات الوخيمة لاستخدام العنف الجنسي ضدهن، ولا يتمكّن من اللجوء إلى الدولة طلبًا للحماية من غير مواجهة العواقب، وما زلن يتعرضن للتمييز والتحامل في مكتب المدعي العام بسبب مطالبتهن، وما زلن عرضة للتهميش في سوق العمل، فضلًا عن العديد من العواقب الخطيرة الأخرى نتيجة لتقاعس الحكومة.

خلصت المحكمة أيضًا إلى أن وضع السكان الأصليين والكولومبيين المنحدرين من أصل أفريقي  ما زال على حاله، حيث يواجه كلا المجتمعين الفقر المدقع والعنف في المناطق الحضرية، والتدهور المستمر لأراضي أسلافهما على أيدي الفصائل المسلحة والأنشطة الاقتصادية غير الشرعية. في ما يخص وضع الأطفال، وجدت المحكمة امتثالًا متدنيًّا مع استمرار ارتفاع معدلات القتل خارج نطاق القضاء، والتجنيد الإجباري، والاختفاء القسري، والموت بسبب الألغام الأرضية، وتفشي حوادث العنف الجنسي. كما وجدت المحكمة بعد متابعة دامت سبع سنوات أنه في عام 2015، 87.5% من المناطق في كولومبيا كانت لا تزال تشهد على حالات من التجنيد الإجباري للأطفال من قبل الفصائل المسلّحة، مع ذلك ظل التنسيق الحكومي للتخفيف من حدة هذه المخاطر غير فعّال.  حددت الحكومة في عام 2011، على سبيل المثال، 118 حالة عن تعرض الأطفال للخطر، إلا أنها لم تتدخل سوى في 46 حالة منها. لم يسجل تقرير المتابعة الصادر في عام 2018، أي بعد مرور عشر سنوات على صدور الأمر الأصلي، تحسّنًا في وضع الأطفال النازحين. فمن بين ما يزيد على مليوني طفل نازح بين عامي 2010 و2016، لم تُدرج الحكومة سوى 13.351 طفل في برامج الدعم المتخصص والحماية.

دلالة القضية

تُبين القضية T-025 والقضايا اللاحقة العناصر الإيجابية لممارسات الوصول إلى العدالة في الفقه القانوني وممارسات المحاكم في كولومبيا. بأي حال، لم تُنفذ القرارات الصادرة في هذه القضايا بسبب عجز الدولة و/أو عدم رغبتها في الخضوع لأوامر المحكمة.

مع ذلك، تُمثل القضايا اعترافًا رسميًّا بمعاناة السكان النازحين من منظور متعدد الجوانب. في الواقع، تُشارك السلطة القضائية في هذه العملية بطريقة تنطوي على ارتباط وثيق بالسكان النازحين، وأدخلتها في صياغة هذا القرار مستخدمةً جلسات الاستماع العامة والشهادات عناصر أساسية في مهمة جمع الحقائق. وبهذا المعنى، تُخضع السلطة القضائية “أذرعها” أو فروعها الحكومية  الأخرى للمساءلة أمام هؤلاء السكان، الأمر الذي يضفي على نضال النازحين من أجل المساءلة مزيدًا من الشرعية. في الواقع، ثمة سبيل وحيد كي تتغلب الدولة على الوضع المنافي للدستور إزاء السكان النازحين يكمن في تحقيق تغيير في الهياكل القمعية في المجتمع، مثل العنصرية والتحيّز الجنساني والتمييز لصالح الأشخاص من غير ذوي الإعاقة والطبقية، التي زادها النزاع المسلّح سوءًا.

أحدث إطار الوضع المنافي للدستور آثارًا كبيرة. فاستطاعت المحكمة بفضل تقصي الحقائق وآليات المتابعة، تعقب حجم التقدّم  الفعلي الذي أحرزته الدولة أو مدى ضآلته. وهذا أمر جوهري في الشفافية الحكومية ومساءلة الحكومة. ذكرت الولايات القضائية الأخرى خارج  كولومبيا الإطار القانوني مرجعًا وطبقته لمعالجة الانتهاكات النظامية لحقوق الإنسان، مثل الانتهاك الواسع لحقوق الأشخاص المحرومين من حريتهم في البرازيل.